السلفية الجهادية..مقدمة..

إذا صح أن ثمة تنظيماً حقيقياً يحمل اسم “القاعدة” بهرمية قيادة، ومركزية قرار، وأهداف معلنة، وأيديولوجيا جامعة، وإذا كانت لهذه “القاعدة” استراتيجية ما في صراعها مع الغرب والشرق معاً بما في ذلك كل حكومات الأرض، فلا مناص من قراءة عميقة في الخطاب الذي تنتجه “القاعدة” بوفرة كمية وحدّة نوعية غير مسبوقة مقارنة بالحركات الإسلامية المعاصرة ونظراً للظروف المختلفة التي تحيط بها.

إن ما يسمى بـ”القاعدة” قد يكون مجرد فكرة تجنِّد اشخاصاً وتسخِّر موارد، وقد لا يكون التنظيم المفترض سوى شكل هلامي في أقل تقدير لا يقوى على الضغوط الأمنية فيتفتت إلى مكوناته الأولى لدى أول صدمة عنيفة، وليس شرطاً أن يحافظ بعد ذلك على انسجامه وتماسكه الداخلي. ويمكن القول إنه الآن بعد غزو أفغانستان ليس سوى كائن “سيبرنطيقي” يخوض معارك الكر والفر على الشبكة العنكبوتية، أو هو في أفضل الأحوال، نواة صغيرة جداً، لكن صلبة وعنيدة مكونة من الدعاة المتحمسين والخبراء العسكريين الشديدي المراس، القادرين في أحوال ملائمة على تشكيل جسم عسكري وأمني وإعلامي متعدد المهام والأجناس، مفارق للحدود واللغات، ومتجاوز للخلافات التكتيكية التي قد لا تعدو أن تكون مجرد تفاصيل في التيار السلفي الجهادي العريض والذي يتخطى بالتأكيد المدرسة السلفية التقليدية من أتباع محمد بن عبد الوهاب.

ولأن الفكرة تمثل نقطة الثقل في هذا التنظيم، بما هي قوة معنوية حافزة وسط التحديات المتلاطمة التي لم يواجهها أي تنظيم من قبل، وبتصميم عز نظيره في التاريخ، فإن مقاربة الجانب الفكري الأيديولوجي يكتسي أهمية فائقة لتحقيق هدفين متلازمين سواء للخصوم أو الأنصار:

الأول سبر غور القاعدة لكشف نقاط القوة والضعف فيها.

والثاني تعيين الوسائل الأكثر نجاعة لاحتوائها في مرحلة أولى ثم القضاء عليها لاحقاً، أو تسديد خطاها وترميم فجواتها وتقويتها من أجل متابعة المسيرة بالنسبة للطرف الثاني.

وهنا يُطرح سؤال جوهري عن مدى قدرة الولايات المتحدة على إنجاز الأمر الأول منهما فضلاً عن تحقيق الثاني، علماً أن الشواهد تدل على فشل نظري في فهم الظاهرة وفشل عملي أكبر في مواجهتها بذكاء وحكمة ما أدى إلى تفاقم الخطر بدلاً من خموده.

وإذا كانت الاستراتيجية لدى هذه الحركة غير قائمة بنظر من هم خارج “القاعدة”، حيث يتهمونها بعمى الألوان والجهل بالأولويات وعدم التعامل مع الواقع كما هو، بل كما يرغب فيه قادة “القاعدة” ومنظروها المعروفون، فإن ثمة استراتيجية موجودة بالفعل برأي من هم في الداخل، وهي مبثوثة في البيانات والتصريحات والمقالات والدراسات والأفلام المتداولة على شبكة الإنترنت خاصة، هذا مع لحاظ أن “القاعدة” تفكر وتراجع أساليبها حتى وهي في طور القتال دفاعاً وهجوماً، فراراً من الأعداء المطاردين لها في كل مكان، وتسللاً من مكان غير آمن إلى آخر قد يكون أقل أمناً. وهي أيضاً تكتب أفكارها وتجاربها، وأفضل كتابها هم الممارسون المجربون في ميادين القتال، وبعضهم من أشهر قادتها الميدانيين الذين سقطوا في صدامات مسلحة في ساح مختلفة من العالم. إذاً نحن أمام تجربة غريبة من نوعها، ولعله هنا تكمن خطورتها وقدرتها على التجنيد والتخطيط والتنفيذ، فالفكر الذي يُقتل صاحبه في الميدان يرتقي إلى درجة عالية من التقدير والاحترام بين جمهوره فيستعصي على النقد عادة رغم ميل “القاعدة” إلى مراجعة أخطائها بنفسها، كما أن “القاعدة” تمعن باطراد في مقارباتها العملية استقاء من الواقع نفسه بعيداً عن التنظيرات الجامدة التي تقع فيها عادة الحركات الإسلامية غير المجربة، وإن كان ثمة خطر آخر هو أن تنجرف في المقتضيات العملية فتبتعد عن مبادئها هي تدريجياً. ولا ينحصر التأثر والتأثير في الحلقة الأقرب إلى المدرسة السلفية فالأقل قرباً على التوالي، بل ربما حقق الفكر المذكور قفزات نوعية وغير متوقعة في النفاذ داخل شرائح بعيدة كانت حتى زمن قريب غير متدينة أصلاً أو حتى غير مسلمة‍‍‍‍‍‍‍، والفضل لا يعود بالضرورة إلى القيمة الذاتية لهذا الفكر، بل إن الفكر المضاد الهائج الذي لا يفرق بين الإسلام ككل وبين أيديولوجيا الجهاديين خاصة، يتسبب بانتشاره بدلاً من الانحسار المتوقع في كل مرة تصيب فيها الأضرار الجانبية الجسيمة عدداً كبيراً من المسلمين في موقع الحدث.

باختزال أولي يمكن القول إن استراتيجية “القاعدة” امتداد طبيعي للأيديولوجيا الحاكمة فيها، إن لم تكن تنطوي على الأيديولوجيا نفسها مع بعض الإضافات الفنية وحسب مما يقتضيه الحال، في حين أن الفكر الجهادي يتضمن بذاته الأهداف والوسائل التي تشكل بمجموعها الاستراتيجية المعمول بها، ويتجلى ذلك أحياناً عبر فتاوى مفصلية أباحت الإرهاب بمعنى قتل المدنيين في سياق الصراع، فيما سمي بالإرهاب المحمود حسب أدبيات التنظيم..

فما هو الوعاء الأيديولوجي لـ”القاعدة”؟ هل هو السلفية؟ وأي سلفية تتبعها “القاعدة”؟ وما الذي يميزها عن السلفيات الأخرى؟ هل “القاعدة” إطار موحد تنصهر فيه الجماعات المتشابهة المنبت والهدف والأسلوب، أم هي غطاء فضفاض لمجموعات متفاوتة في التشدد وكذلك في الأسلوب؟

 

النشأة الأولى

لقد انبثق التيار السلفي الجهادي في المملكة العربية السعودية من رحم المدرسة السلفية التقليدية المتحالفة تاريخياً مع آل سعود، في الثمانينات من القرن العشرين، إثر اجتياح الجيش السوفياتي لأفغانستان، ومع توجه أمريكا للاستعانة بالإسلام في مواجهة الشيوعية الزاحفة آنذاك نحو المياه الدافئة ونفط الخليج. هذا التيار تعضّد بالمجاهدين العرب الذين قادهم الدكتور عبد الله عزام، وهو وإن كان من جماعة الإخوان المسلمين ابتداء لكنه تأثر أكثر بفكر سيد قطب المتميز عن المقولات الرسمية للإخوان، ويمثل عزام مدرسة إخوانية متأثرة بالسلفية دون أن تذوب فيها. كما أن سلفية أخرى كانت قد نشأت في مصر الرافد الثاني لتنظيم “القاعدة” لاحقاً، وهي تتخطى المنطق السني التقليدي وكذلك التوجهات السلفية المعروفة التي تتحفظ على أي محاولة للثورة ضد الحاكم الظالم ما دام مسلماً في الظاهر. وهي سلفية جهادية بهذا المعنى وانطلقت إلى أفغانستان وهي تحمل هذا الفكر المعتمد على كتابات ابن تيمية بشكل أساسي. وهناك في أفغانستان تفاعل التياران المتشابهان المترادفان، فابتعد السلفيون الجهاديون السعوديون تدريجياً عن المرجعية التقليدية دون أن يتخلوا عن ميراث محمد بن عبد الوهاب، وتميز السلفيون القطبيون (المصريون وغيرهم) على مراتبهم المختلفة عن تيار الإخوان المسلمين، بل انشقوا عنهم قولاً وفعلاً في نهاية الطريق.

وحين تمكنت حركة طالبان من السيطرة على معظم أفغانستان بات على “القاعدة” التعامل مع سلفية من نوع آخر، لا علاقة لها بالوهابية، لكنها تلتقي معها في كثير من الأمور. فالطالبانيون تابعون مذهبياً للإمام أبي حنيفة النعمان، وهو رأس مدرسة الرأي لدى أهل السنة، وهو مقل في الاحتجاج بالحديث النبوي. لكن مسلمي شبه القارة الهندية الذين نبغ منهم علماء حديث كبار في القرون الحديثة، أوجدوا مؤالفة غريبة بين نصوص الحديث وقواعد الفقه الحنفي، أي ظلوا أتباع المذهب مع ترجيح العمل بالحديث وتحكيمه بالفقه. وطالبان تبعاَ لذلك، سلفية حنفية مختلفة عن السلفية الحنبلية (نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل صاحب المذهب السني الرابع) وعن الوهابية انتهاء.

 

وسطية عزام وبن لادن

ويُعتبر سيد قطب المرجع الثاني المشترك بين التيارين السلفيين المتعادضين في البداية المندمجين أخيراً بما سمي بـ”قاعدة الجهاد”، والمؤلفة من تنظيم القاعدة (بن لادن) والجهاد الإسلامي (الظواهري). فإذا كان عبد الله عزام واسطة العقد بين التنظيم الدولي للإخوان المسلمين والتيار الجهادي الطري العود آنذاك، كان يُلقب بسيد قطب الأردن، بما يميزه عن التيار الأم، فإن الدكتور أيمن الظواهري الذي هو جسر العبور للمجاهدين العرب وعلى رأسهم أسامة بن لادن من العقيدة السلفية التقليدية إلى عقيدة الولاء والبراء المكفرة أخيراً للدولة السعودية الحالية، قد استند إلى “ظلال القرآن” و”معالم في الطريق” لسيد قطب من أجل رسم عالمه الجديد من دون حسن البنا الرجل الأسطورة والمؤسس لتيار الإخوان، بل إنه خصص كتاباً منفرداً لإدانة البنا وسياساته البراغماتية إزاء الملك فاروق تحت عنوان “الحصاد المر”.

أما عزام فهو وإن كان يعتبر أن حسن البنا قد أحسن الظن بالحكام العرب في عصره، وأنه أخطأ في عدم إرسال أعداد كافية من الشباب المسلم لتحرير فلسطين عام 1948، لكنه يجله ويحترمه وقد تأثر كثيراً بكتاباته، لا سيما “الرسائل”.

وعلى حواف القطبين المتنافرين ظاهراً، عزام والظواهري يميناً ويساراً، تبرز أسماء أخرى وتيارات، منها ما هو أقرب إلى السلفية التي تدين الولاء لولي الأمر وتلتزم بالبيعة، أو من يعتبر حركة الإخوان مرجعه الأساسي، ومنها من تذهب إلى حد التنصل من فقهاء السلطان كما يوصفون وتكفير الدولة السعودية ذاتها رغم ما تمثله المملكة في العالم الإسلامي، ومن يوسع دائرة الإقصاء ليشمل شرائح إسلامية أخرى، كما في المبالغة في تكفير أهل السلطة والموالين لهم ومعاونيهم. وعليه، يحتل أسامة بن لادن موقعاً وسطياً بين هؤلاء وهؤلاء، والوسطية هنا نسبية طبعاً، فهو متعدد المشارب الفكرية، بين الإخوان المسلمين والسلفية الوهابية، وقد تدرج في المعارضة من النصيحة لولي الأمر والتشديد عليه بالكلام بسبب الاستعانة بالقوات الأمريكية لطرد صدام حسين من الكويت وحماية المملكة، نهاية بتكفير النظام السياسي بسبب موالاته للغرب وخضوعه للأمم المتحدة وشرعة القانون الدولي.

وسطية بن لادن تختلف عن وسطية عزام بالتأكيد، وذلك مرجعه إلى اختلاف طبيعة التحالف الجديد بالمقارنة البسيطة بين الجبهة الإسلامية العالمية لمقاتلة اليهود والصليبيين عام 1998 ومكتب الخدمات أيام الجهاد الأفغاني بداية الثمانينات من القرن الفائت، واختلاف موازين القوى داخل كل جهة، كما اختلاف الظروف المحيطة واختلاف نوعية المخاطر والتحديات، واختلاف الطموحات كذلك. فإذا كانت أغلبية المجاهدين العرب أيام عزام من الحركيين والسلفيين التقليديين، فإن الكتلة الرئيسية في تنظيم “القاعدة” الآن من المنشقين عن التيارات الإسلامية الرئيسية.

 

أفغانستان أولاً

حين تولى الدكتور عبد الله عزام تجنيد الشباب المسلم من أنحاء العالم باتجاه أفغانستان، بموافقة وترحيب من الإخوان المسلمين، بدا وكأنه يحي فريضة الجهاد المنسية، ولما نجح في مسعاه الأولي تركز جهده في أن تتحول أفغانستان ساحة للتدرب على القتال دون التدخل في شؤونها الداخلية، وحين تحدث عن “القاعدة الصلبة” في أفغانستان كان يقصد تلك الطليعة المجاهدة من الشباب الذي مارس القتال وأضحى يشكل قوة عسكرية مجرِّبة لنصرة المسلمين في كل مكان.

وفي إجابته عن تساؤل مفترض هو متى يصبح الجهاد فرض عين؟ وهل الحالة في أفغانستان, وفي فلسطين, وفي الفلبين, وفي غيرها, تجعل الجهاد فرض عين؟ قال عزام: “بقدر اطلاعي في كتب الحديث والتفسير والفقه ما رأيت كتاباً من الصدر الأول إلى يومنا هذا إلا وينص على أن الجهاد يصبح فرض عين في حالات منها: إذا دخل العدو أرض الإسلام.. اليهود دخلوا فلسطين فالجهاد فرض عين.. ودخل الروس أفغانستان, أو الشيوعيون دخلوا أفغانستان, إذن الجهاد فرض عين في أفغانستان, بل ليس الجهاد فرض عين عندما دخل الروس أفغانستان, الجهاد فرض عين منذ أن سقطت الأندلس بيد النصارى, ولم يتغير هذا الحكم إلى يومنا هذا.

..الجهاد فرض عين منذ (1492م) عندما سقطت غرناطة بيد الكفار- بيد النصارى- وإلى يومنا هذا, وسيبقى الجهاد فرض عين حتى نستعيد كل بقعة كانت إسلامية إلى أرض الإسلام, وإلى يد المسلمين”.

 

الجهاد قبل الصلاة

ويضيف عزام: “يجب على الناس أن ينفروا ولو مشاة.. يجب على الأردني أن يأتي من عمان ماشياً إذا لم يجد ثمن التذكرة, والمصري أن يأتي من القاهرة ولو ماشياً, والسعودي أن يأتي من مكة ولو ماشياً, مع القلة والكثرة, مع المشي والركوب, هذا نص ابن تيمية, يقول: (فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه), أولاً لا إله إلا الله محمد رسول الله, وقبل الصلاة والصوم والزكاة والحج وما إلى ذلك، (فالعدو الصائل – الذي يصول ويسطو على المسلمين بقوته – الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه), ثم يقول: (إن الجهاد يقدم على الصلاة).

وكان الفقهاء يقولون أولاً: إن الجهاد يصبح فرض عين على القطر, ثم على من يليه, ثم على من يليه يوم أن كانت المعارك تنتهي بيوم أو يومين أو ثلاثة, أما الآن: وقد استمرت المعركة سنوات, فأي عذر لأحد في الأرض أن يتأخر?!, وكانوا يقولون: الجهاد فرض عين ابتداءا على القطر, ثم يتوسع يوم أن كان الوصول إليه على البغل والحصان والحمار, أما اليوم وبالطائرة تأتي من أقصى نقطة في الأرض إلى أفغانستان في يوم واحد أو في يومين حتى لا نكون مبالغين, أليس كذلك? إذن الجهاد فرض عين على المصري والسعودي والأردني والسوري, كالأفغاني تماماً لأنه كما يقول ابن تيمية: (وأرض الإسلام كالبلد الواحد إذ إن بلدان الإسلام كلها كالبلد الواحد). وقد نص الفقهاء على أن الجهاد يصبح فرض عين إذا أسرت امرأة واحدة أو أسر رجل واحد… الجهاد في الكتاب والسنة له مصطلح قرآني, مصطلح رباني معناه القتال. ويبقى الجهاد فرض عين حتى ترجع آخر بقعة- كانت في يوم من الأيام إسلامية- إلى يد المسلمين.

والجهاد-وهو القتال- يبقى فرض عين عليك طيلة حياتك, افرض أنك قاتلت في فلسطين أو في أفغانستان وحررنا فلسطين; لا ينتهي فرض العين, يجب أن تنتقل إلى بقعة أخرى وثالثة ورابعة.

دراستك ليست جهاداً, علمك ليس جهاداً, جلوسك مع إخوانك في حلقات دراسية أو دعوية ليس جهاداً, الجهاد هو القتال، ما دامت راية القتال مرفوعة, ما دامت الأسنة مشرعة وما دمت تتمتع بالصحة, وبإمكانك أن تحمل السلاح”.

 

لا إذن في الجهاد الفرض

وفي نص الوصية التي كتبها عزام في منزل القائد الأفغاني جلال الدين حقاني في 12 شعبان عام 1406 هجري: “لقد ملك حبُّ الجهاد عليّ حياتي ونفسي ومشاعري وقلبي وأحاسيسي، إنَّ سورة التوبة بآياتها المحكمة التي مَثَّلث الشِّرْعَةَ النهائية للجهاد في هذا الدين وإلى يوم الدين لتعتصر قلبي ألماً، وتُمزِّق نفسي أسى وأنا أرى تقصيري وتقصير المسلمين أجمعين تجاه القتال في سبيل الله.

إنَّ آية السيف التي نسخت قبلها نيفاً وعشرين آية –أو أربعين آية- بعد المائة من آيات الجهاد لهي الردُّ الحاسم والجواب الجازم لكلِّ من أراد أن يتلاعب بآيات القتال في سبيل الله، أو يتجرأ على محكمها بتأويل، أو صرفها عن ظاهرها القاطع الدلالة والقطعي الثبوت .

وآية السيف “وقَاتلواْ المُشْركينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلونَكم كافة واعْلَمُواْ أنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقين” أو آية “فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحْرُمُ فَاقْتُلُواْ المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُم وَخُذُوهُمْ واحصُرُوهُم وَاقْعدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُواْ وأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللهَ غَفُورٌ رحيم”.

وقال عزام بوضوح شديد: “إني أرى أنَّ كلَّ مسلم في الأرض اليوم منوط في عنقه تبعة ترك الجهاد (القتال في سبيل الله) وكلُّ مسلم يحمل وزر ترك البندقية، وكلُّ من لقي الله –غير أولي الضرر- دون أن تكون البندقية في يده فإنَّه يلقى الله آثماً، لأنَّه تارك للقتال، والقتال الآن فرض عين على كل مسلم في الأرض غير المعذورين. وترك الفرض إثم، لأنَّ الفرض ما يثاب فاعله، ويحاسب أو يأثم تاركه.

أرى –والله أعلم- أنَّ الذين يعفون أمام الله بسبب تركهم الجهاد هم: الأعمى والأعرج والمريض، والمستضعفون من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، أي لا يستطيعون الانتقال إلى أرض المعركة، ولا يعرفون الطريق إليها.

والناس كلُّهم آثمون بسبب ترك القتال، سواء كان القتال في فلسطين، أو في أفغانستان، أو في أية بقعة من بقاع الأرض التي ديست من الكفار، ودنست بأرجاسهم.

وإني أرى أنَّ لا إذن لأحد اليوم في القتال والنفير في سبيل الله، لا إذن لوالد على ولده، ولا لزوج على زوجته، ولا لدائن على مدينه، ولا لشيخ على تلميذه، ولا لأمير على مأموره.

هذا إجماع علماء الأمة جميعاً في عصور التاريخ كلها، إنه في مثل هذه الحالة يخرج الولد دون إذن والده والزوج دون إذن زوجته، ومن حاول أن يغالط في هذه القضية، فقد تعدى وظلم، واتبع هواه بغير هدى من الله.

..هي قضية حاسمة واضحة لا غبش فيها ولا لبس، فلا مجال لتمييعها، ولا حيلة لأحد في التلاعب فيها وتأويلها”.

أما ما يتعلق بإمكانية تجاوز إذن أمير المؤمنين أو ولي الأمر بالجهاد، فيقول عزام:

“إن أمير المؤمنين لا يُستَأذن في الجهاد في حالات ثلاث:

-إذا عطَّل الأمير الجهاد.

-إذا فوّت الاستئذان المقصود.

-إذا علمنا منعه مقدماً”.

بل ذهب إلى “أن المسلمين اليوم مسؤولون عن كل عرض ينتهك في أفغانستان، وعن كل دم يسفك فيها، إنهم –والله أعلم- مشتركون في دمائهم بسبب تقصيرهم، لأنهم يملكون أن يقدموا لهم السلاح الذي يحميهم، والطبيب الذي يعالجهم، والمال الذي يشترون به الطعام، والحفَّارة التي يحفرون بها الخنادق”.

وفي كل ما سبقت الإشارة إليه تعريض واضح بالمشايخ التقليديين الذين لا يجيزون الجهاد على الإطلاق دون إذن ولي الأمر، في وقت كان بن لادن نفسه يعتقد أن ذهابه إلى أفغانستان يحتاج إلى إذن من ولي الأمر، وقد حصل عليه بالفعل قبل التحاقه بالجهاد الأفغاني كما كشف حذيفة نجل عبد الله عزام أخيراً.

 

فلسطين وخطأ البنا

ولقد استطاع عزام بقوة شخصيته وبساطة حجته أن ينفذ إلى قلوب الكثير من أتباع الجماعات الإسلامية المختلفة، وأن يزعزع المسلمات الحركية أو التقليدية على حد سواء، حتى إنه لم يوفر تيار الإخوان المسلمين من سهامه بسبب ركونهم إلى الوسائل السياسية في نضالهم نحو إقامة الشريعة وتأسيس الدولة وعدم اغتنامهم فرصة الجهاد في أفغانستان بالقدر الذي تمناه منهم.

لقد تلخصت حملة الاتهامات عبد الله عزام في تلك الفترة وإلى الآن بأنه -وهو الأردني الفلسطيني- كان يجند الشباب المسلم للقتال في أفغانستان وبتشجيع من المخابرات الأمريكية، وكان الأجدر به لو توجه إلى فلسطين القضية المركزية للأمة. وأنه من المدرسة الإخوانية التي كانت ترى منذ انطلاقها بعد سنوات من انفراط الخلافة العثمانية أن أوجب الواجبات إعادة الخلافة أو إقامتها مجدداً، ومن ثم تأتي قضية الأراضي المحتلة وعلى رأسها فلسطين. كما أن عزام حسب هذه الاتهامات لا يعتبر قضية فلسطين القضية المركزية للأمة العربية وهو معاد أساساً لفكرة القومية العربية التي كان يمثلها جمال عبد الناصر العدو اللدود للإخوان. ومعلوم أن عبد الناصر كان حليف الاتحاد السوفياتي وشكل مع الهند العدو اللدود لباكستان محور عدم الانحياز.

قد يكون بعض ذلك صحيحاً، لكنه بالمقابل كان يرى أن العجز عن التوجه نحو فلسطين لعوائق معروفة لا ينفي واجب الجهاد في أمكنة أخرى، ولذلك كان يقول:”إن كنت تستطيع أن تجاهد في فلسطين, جاهد في فلسطين وهو أولى وأفضل, وهي الأرض المباركة, أما إذا كنت لا تستطيع أن تدخل دخولاً إلى فلسطين, تبقى جالساً تتعلل بالأماني, وتعيد وتبدىء: “فلسطين وفلسطين”, كما (قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلم: متى الساعة قال: ويحك ماذا أعددت لها؟).

ماذا أعددت لفلسطين يا أخي?!.. أنت هل تدربت?! هل تعرف السلاح?! هل شهدت معارك?! هل كلفت نفسك يوماً أن تتعلم كيف تفك اللغم وتركبه?! هل كلفت نفسك أن تضع لغماً شراكياً في سيارة أوغيرها?! كيف تضع لغماً شراكياً أمام باب أحد اليهود أو في سيارته أو باب مصنعه أو غير ذلك?!.. طبعا معظمكم لا يعرف هذا, وما رأى وما فكر فيه, تعالوا عندنا نعلمكم عليه, تعالوا إلى أفغانستان نعلمكم عليه ونرجعكم إلى فلسطين.. ما ينقص من فلسطينيتك؟ ولا شيء. ندربك, نعلمك, تخوض عدة معارك لتكسر حاجز الخوف, تتعلم الرجولة, تنضج نفسيتك دينياً ونفسياً وعقلياً ورجولة ثم ترجع إلى بلادك. أما وقد فقدت هنا السبيل إلى أرضك, فهنالك سبل أخرى.

يا إخوان: اليهود عندما أقاموا دولتهم اشتركوا مع دول الحلفاء في الحرب العالمية, حتى يتعلموا الحرب, دايان سنة 1969م لما كان يواجه حرب الفدائيين, ذهب إلى فيتنام ليتعلم كيف يقاتل الفدائيين, وكيف يقاومهم, ذهب بنفسه”.(مقاطع من خطب).

وفي موضع آخر، يفصح عزام أكثر عن مكنون صدره ورأيه بتجربة الإخوان المسلمين الأوائل في فلسطين، فيقول: “حسن البنا كان يدرك أن معركة فلسطين معركة أساسية, مقاتلة اليهود في المنطقة هنا يجب أن تقدم على مواجهة أو منازلة أي طاغوت, لأنه كان يعتبر أن هؤلاء الطواغيت عبارة عن دمامل في جسد الأمة الصحيح ستلفظه بعد حين ويتغير هذا الطاغوت ويأتي غيره. الأحزاب العلمانية هذه كلها زائلة, لكن إذا ثبتت إسرائيل أقدامها فإنها تستطيع أن تحرك المنطقة بأسرها. أعداء الله كانوا يفكرون كما يفكر البنا, ولذلك سبقوه. البنا أرسل مجموعة من الشباب إلى فلسطين لكن فاته أن يغتنم الفرصة بسرعة, ويدفع بأكبر مجموعة من شباب الإخوان إلى فلسطين, ولو أرسل بمجموعات فعلاً من شباب الإخوان بعدد كاف لهزموا اليهود ولأقاموا الدولة الإسلامية في فلسطين, ولتساقطت الأنظمة طبيعياً بعد ذلك بانتصار هذه الحركة على أكبر عدو مشترك في المنطقة وهو اليهود, والناس قلوبهم متوهجة, ونفوسهم تتحرق, وأعصابهم مشدودة لقضية فلسطين, وأي واحد يدخل فلسطين ينال ثقة الناس أجمعين”.

لكن المشكلة كما رآها عزام أن “الأستاذ البنا كأني به ما كان يظن أن الحكام بهذا السوء, أن الحكام كلهم سيتآمرون ضد المسلمين ويقفون مع اليهود, كأني به لم يكن يظن هذا الظن, وما كانت المعركة قد كشرت عن نابها بين الطواغيت وبين الحركة الإسلامية, كان فاروق أكثر شيء (يفعله) يعتقل واحداً من الإخوان أو اثنين ويرميهم في السجن, قتلوا أحمد ماهر فسجنوا الذي قتله. ما كانت الضربات الساحقة التي وجهت للحركة الإسلامية قد برزت إلى ناظري البنا”. (سلسلة في الهجرة والإعداد).أما وقد ضاعت فرصة تحرير فلسطين في تلك الفترة المبكرة، أراد عزام “مجسماً للإسلام فوق طاولة, فوق بقعة أرض, المجسم هذا دولة إسلامية تحكم بهذا الدين حتى يراها الناس, أين بقعة الأرض هذه?” ويقول:”عندما رأيت أفغانستان وقع في قلبي أن هذه الأرض هي التي نبحث عنها لإقامة دولة إسلامية”.

ولماذا أفغانستان؟ “لأن فيها الجبال, والحدود المفتوحة, ودولاً متعاونة مثل باكستان, وأناساً يمدون إليك يد المساعدة, ثم هي بقعة واسعة, والشعب كله معك..

والحركة الإسلامية فيها ما طال عليها الأمد, خمس أو ست سنوات ودُهمت بالأحداث, ولا زالت طاقات الإسلاميين حية في نفوسهم. لم يأخذوا فترة طويلة في التربية لأن الأحداث دهمتهم, والشباب كلهم دون الثلاثين والله ساق لهم قيادة شابة حازمة حاسمة متحمسة تتفجر حيوية وتتدفق طاقة ..الحقيقة أن الشعب الأفغاني فريد في أصالته, ما تلطخ بالحضارة الغربية, فطرته وخاصته لا زالت كما هي ما فسدت, العلم في أفغانستان كالنقش في الحجر, الجهاد في أفغانستان كالنقش في الحجر, شعب فطرته سليمة, شعب أصيل, القلعة موجودة… القلعة هي المرأة, قلعة حصينة, المرأة ما كشفت وجهها حتى الآن, أصيلة ثابتة يضعها زوجها في البيت يقول لها: أنا أغيب سنة, تثبت في السنة لا تخرج عن الباب”..

 

قواعد من التجربة الحركية

ويتوصل عزام من تجربته في أفغانستان إلى نظرية مهمة قد تلخص فكر “القاعدة” فيما بعد، بل قد تكشف سر التسمية نفسها. يقول عزام: “خرجت من خلال الأحداث الضخمة التي عشتها في داخل أفغانستان بالقواعد التالية:

القاعدة الأولى: لا يمكن لأي حركة إسلامية وحدها أن تقيم دولة إسلامية.

والقاعدة الثانية: لا بد من حركة إسلامية حتى تقوم الدولة الإسلامية على يدها, لكنها لا تستطيع أن تقيم دولة الإسلام وحدها, فإذن كيف? ثم لا بد أن تعتني هذه الحركة بأبنائها, فتربيهم تربية ربانية. وهؤلاء الأفراد قبل أن تربيهم, أصبحوا ناضجين, لا بد أن يشرعوا السلاح وتبدأ المعركة المسلحة حيث علينا أن نختار لها بقعة أرض مناسبة, وشعباً مناسباً إن استطعنا, لكن الحركة الإسلامية في داخل هذا الشعب. نركز بحيث نقوي الحركة الإسلامية داخل هذا الشعب, ثم تشعل الحركة الإسلامية الفتيل وتقود المسيرة, الشعب سيلتف حولها يوما بعد يوم.

سيفجرون عاطفة هذا الشعب وسيجتذبون انتباهه وسيخرجون أعداءهم, لأن الجهاد لا يستطيع أحد أن يتكلم عليه, والأولى بالحركة الإسلامية أن تختار عدواً مشتركاً يتفق الجميع على أن هذا عدو, يعني اليهود عدو مشترك والأولى بالحركة الإسلامية أن تبدأ بالقتال ضد اليهود. روسيا عدو مشترك لا يستطيع أحد أن يسمي الذي يقاتل الروس خائناً, بل الوطني سينظر إليك من ناحية وطنية فيكبرك ويجلك ويحترمك ويعجب بشخصك, أولاً, ثم يعجب بمبدئك ثانياً, والمسلم كذلك سيكبرك لأنك تمتشق حسامك وتشرع هامتك للنار, وتبحث عن الموت وتدافع عن الشعب, فالشعب سيقف معك, أعداء الإسلام سيخرسون، لا يستطيعون أن يجابهوك في هذا الميدان المشترك. المعركة ستطول وكلما طالت المعركة كلما استفادت الحركة الإسلامية وكلما اختارت العناصر وكلما برزت القيادات, وكلما طالت المعركة دفعت بالنماذج إلى القمة, لأن طول المدة سيسقط الناس, سيضعف الذي ليس له صلة وثيقة بالله عز وجل. من لم يتركز الإيمان في قلبه سيسقط, لأن هنالك أولاداً ومزرعة ووظيفة وهنالك وهنالك, هذه كلها جواذب ستجذبهم للخلف.

وبعد معركة طويلة مع أعداء الله عز وجل ستكون النتيجة واحداً من اثنين, إما أن ينتصر الكفار وإما أن ينتصر المسلمون. إن انتصر المسلمون قامت الدولة الإسلامية, وإن انتصر الكفار لم تخسر الدعوة الإسلامية, لم تخسر لأنها كونت رصيداً ضخماً من الناس, الناس أحبوها ثم حفظت لها تراثاً مجيداً, وصفحات مشرقة تسكت الذين يثرثرون أو الذين يلهون أو يعبثون بأصحاب المبادئ”. (سلسلة الهجرة والإعداد).

هذه الآلية المعقدة التي توصل إليها عبد الله عزام، هي خلاصة التجارب والنكسات التي تعرضت إليها الحركات الإسلامية في صراعها مع الأنظمة ابتداء من الإخوان المسلمين بقيادة المؤسس حسن البنا. وهي تنم أيضاً عن مدى تأثره بسيد قطب لا سيما في كتابه المهم “معالم في الطريق”.

 

التجمع العضوي الحركي

إن قطب يؤكد في “المعالم” أن “الإسلام لم يكن يملك أن يتمثل في “نظرية” مجردة، يعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة، ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً. فإن وجودهم على هذا النحو – مهما كثر عددهم – لا يمكن أن يؤدي إلى “وجود فعلي” للإسلام، لأن الأفراد “المسلمين نظرياً” الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية .. وسيتحركون – طوعاً أو كرهاً، بوعي أو بغير وعي- لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده، وسيدافعون عن كيانه، وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه، لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا .. أي أن الأفراد “المسلمين نظرياً” سيظلون يقومون “فعلاً” بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون “نظرياً” لإزالته، وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد، وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا بها ويقوى، وذلك بدلاً من أن تكون حركتهم فـي اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي لإقامة المجتمع الإسلامي!”

إن تشخيص سيد قطب للمشكلة يعني ابتداء أن المصالح الشخصية والنزعات الوطنية والعنصرية يمكن أن تقف عائقاً أمام الحركة الإسلامية التي تريد إقامة الدولة وتطبيق الشريعة، وهنا التمييز دقيق بين المسلمين التقليديين والإسلاميين الحركيين وإن لم يرد صراحة في نص قطب.

وإن لم تتم المفاصلة بين المجتمع الجاهلي والمسلمين فيه حتى يكوِّنوا المجتمع الإسلامي المرتجى، فلن تنجح الحركة الإسلامية في مبتغاها، لكن خصوم قطب وكثيراً من أنصاره فهموا من هذه العبارة تكفير المجتمع الجاهلي الحديث، رغم أن الإخوان المسلمين يتأولون كلامه ولا يضعونه على محمل التكفير. أما الثمرة الأولى لهذا الفكر فكانت نشوء جماعة “التكفير والهجرة” في مصر، من داخل السجون أيام عبد الناصر، ونضوج فكرة الولاء والبراء للدكتور الظواهري زعيم تنظيم الجهاد، لذلك لم يتردد الظواهري في الالتحاق بالمجاهدين العرب ببيشاور عقب قضائه فترة السجن إثر اغتيال الرئيس أنور السادات، فخلال مشاركته بالوفد الطبي المصري لمساعدة الأفغان عام 1980 وجد في أفغانستان المحضن الملائم لتنمية نواة الجهاد وتدريب العناصر وتوجيهها تمهيداً لتغيير النظام في مصر.

سيد قطب يوضح كذلك أنه “لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام (أي العقيدة) في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى، وأن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي، منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه، وأن يكون محور التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته – وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولاءه من التجمع الحركي الجاهلي – أي التجمـع الذي جاء منه – ومن قيادة ذلك التجمع – في أية صورة كانت، سواء كانت في صورة قيادة دينية من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم، أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش – وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد، وفي قيادته المسلمة . ولم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام ، ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا. لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم، لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون، له وجود ذاتي مستقل، يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً – كأعضاء الكائن الحي – على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه، وفي الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه، ويعملون هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي، تنظم حركتهم وتنسقه، وتوجههم لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الاسلامي، ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي .

وهكذا وجد الإسلام .. هكذا وجد متمثلاً في قاعدة نظرية مجملة – ولكنها شاملة – يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي، مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع .. ولم يوجد قط في صورة “نظرية” مجردة عن هذا الوجود الفعلي .. وهكذا يمكن أن يٍوجد الإسلام مرة أخرى ، ولا سبيل لإعادة إنشائه في المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية “. (معالم في الطريق)بعبارة أخرى، لا يكفي الإسلام وجود قاعدة نظرية هي العقيدة، بل لا بد من تأسيس القاعدة المادية التي عبّر عنها سيد قطب بـ”التجمع العضوي الحركي”. أما عبد الله عزام فراح يبحث عن بقعة أرض لهذا التجمع فوجدها في أفغانستان. ويقول في هذا المجال: “إن المبادئ لا ينصرها إلا النفوس الصادقة والفطر السليمة، وإن هذا الدين قد انتصر في كل مرة بشعب خامته طيبة وفطرته سليمة; فانتصر أول مرة بالعرب الأميين، وحكم الشعب التركي بإسلامه مع أميته ربع العالم وعلى مدى خمسة قرون متتالية.

ولقد رأيت أن أصالة الشعب الأفغاني بإباء رجاله وحصانة نسائه مع الحياء والعفة والوفاء وسلامة الجبلة والفطرة تكو ن لمجموعها قاعدة صلبة يمكن أن يقام عليها هذا الدين ويشاد فوقها صرحه العظيم.

إن الدين عند الشعب الأفغاني أصبح مع الزمن سليقة وليس تصنعـاً، وطبعاً وليس تطبعـاً، ومعدناً وليس طـــلاء، وخليقة وليس تمثيلاً .

إن هذا الدين لا ينتصر بجيل نخرته الشهوات، وأنهكته الملذات وحطمت نفسيته وأذلته أجهزة المخابرات، وأتلفه الترف وأفسده السرف. فهل ينتبه المسلمون إلى هذا الكنز العظيم بين أيديهم (الشعب الأفغاني وجهاده)؟ وهل يقف المسلمون بجانب هذا الشعب الكريم وينهلون معه من نفس المعين؟ هل يبادر المسلمون للحفاظ على هذه القاعدة الصلبة لعلها تكون بإذن الله المنطلق لهذا المارد الجبار ولهذا العملاق الكبير ليحرر الإنسان المعذب في الأرض؟ أم تفلت من بين أيديهم هذه الفرصة الذهبية كما أفلتت من أيديهم فرص كثيرة؟

إنه غيب دونه حجب مسدلة لا يعلمه إلا الله الذي علمنا أن الحياة والنصر مقامة على قوانين وسنن، وألزمنا الأخذ بالأسباب وأوجب علينا الإعداد”.

أصالة الشعب الأفغاني المسلم مجلة الجهاد -العدد الثامن والثلاثون- جمادي الأولى 1408هـ، يناير 1988م

وفي مقال آخر، انتقل عزام من الحديث عن “القاعدة الصلبة” في أفغانستان البقعة الملائمة للجهاد، إلى الطليعة المجاهدة التي تحمل الدين وتؤسس الدولة، وهو يؤكد: “كل مبدأ من المبادئ لا بد له من طليعة تحمله، وتتحمل وهي تشق طريقها إلى المجتمع تكاليف غالية وتضحيات باهظة، وما من عقيدة من العقائد أرضية كانت أو سماوية إلا واحتاجت إلى هذه الطليعة التي تبذل في سبيل نصرة عقيدتها كل ما تملك، وتتحمل لأواء الطريق الصعب الطويل حتى تصل إلى إقرارها في واقع الحياة إذا كتب الله لها التمكين والظهور. وهذه الطليعة تمثل، القاعدة الصلبة للمجتمع المأمول.

ومالم تجد العقيدة -ولو كانت من عند رب العالمين-هذه الطليعة المضحية التي تبذل كل ما تملك من أجل إظهار عقيدتها فإن العقيدة ستولد ميتة وتوأد قبل أن ترى النور والحياة”.

 

شروط الطليعة المجاهدة

ومن غمار التجربة الأفغانية استنتج أنه “لا يمكن للمجتمع الإسلامي أن يقوم بدون حركة إسلامية تشب على نار المحنة وينضج أفرادها على حرارة الابتلاء، وهذه الحركة تمثل الصاعق الذي يفجر طاقات الأمة، ويقوم جهاد طويل تمثل فيه الحركة الإسلامية دور القيادة والريادة والإمامة والإرشاد، ومن خلال الجهاد الطويل تتميز مقادير الناس وتبرز طاقاتهم وتتحدد مقاماتهم، وتتقدم قادتهم لتوجه المسيرة وتمسك بالزمام، وهؤلاء بعد طول المعاناة يمكن الله لهم في الأرض ويجعلهم ستاراً لقدره وأداة لنصرة دينه. وإن حمل السلاح قبل التربية الطويلة للعصبة المؤمنة يعتبر أمراً خطيراً لأن حملة السلاح سيتحولون إلى عصابات تهدد أمن الناس وتقض عليهم مضاجعه”.

وحدد عزام شروط تربية الطليعة المجاهدة وهي:

– أن تشب في أتون المحن وأمواج البلاء.

-أن تكون القيادة المربية تشارك الطليعة مسيرة الابتلاء والعرق والدماء، فلا بد أن تكون القيادة هي المحضن الدافئ الذي تنمو تحت أجنحته هذه الأفراخ ولابد من طول مدة الحضانة والتربية.

-لا بد لهذه الطليعة أن تترفع عن متاع الدنيا الرخيص، ويكون لها طابع متفرد من حيث الزهد والتقشف.

– يجب أن تكون ممتلئة باليقين الراسخ بالعقيدة مع الأمل العريض الذي يملأ جوانحها بانتصارها.

-لا بد من الإصرار والعزيمة على مواصلة السير مهما طال الأمد.

-الولاء والبراء.

-لا بد أن تدرك المخططات العالمية ضد الإسلام”.

وهناك بحسب عزام أسباب رئيسية لهذه التربية الطويلة، “لأن طول التضحية وفداحة التكاليف مع طول الزمن يؤدي إلى الملل واليأس إلا إذا كانت هذه التربية العميقة هي صمام الأمن لهذه المسيرة. ولأن الاغراءات والمساومات على الطريق مستمرة ولكنها كلما اقتربت من النصر تزداد العروض ومحاولات الاحتواء فلا بد أن تكون القيادة عناصر غير قابلة للذوبان. ولأن هذه القيادة إذا مكن الله لها في الأرض هي التي ستوضع بين أيديها الكنوز وهي التي ستشرف على حماية أموال الشعب المسلم وأعراضه ودمائه، فما لم تكن أمينة فويل للأمة من قيادتها.

ولقد كانت العناصر الثمانية الآنفة الذكر بارزة من خلال التربية النبوية للجيل الأول ولذا فعندما ارتدت الجزيرة بأسرها قامت القاعدة الصلبة وارجعتها إلى الإسلام”.

(القاعدة الصلبة، مجلة الجهاد -العدد الحادي والأربعون- شعبان 1408هـ، الموافق ابريل 1988م).

 

تأثر عزام بقطب

هنا يبدو عبد الله عزام وهو يترجم حرفياً مقولة سيد قطب فيما يخص التجمع العضوي الحركي الذي يشكل القاعدة المادية للمجتمع الإسلامي، وليس هذا بمستغرب فكان قد واظب على مطالعة كتبه وهو صغير، وأُرسل في بعثة إلى الأزهر للحصول على شهادة الدكتوراه، حيث حصل عليها عام 1973م، فعاد مدرساً في الجامعة الأردنية، وفي فترة إعداده للدكتوراه التقى بآل قطب، وأخذ عنهم أخبار سيد قطب، وفترة سجنه وإعدامه، والفتن التي تعرضت لها الحركة الإسلامية أثناء اعتقال أفرادها. وكان يعتقد “أن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئاً كثيراً ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم.. أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم.. أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق.

ولقد مضى سيد قطب إلى ربه رافع الرأس ناصع الجبين عالي الهامة بحسب رأيه، وترك التراث الضخم من الفكر الإسلامي الذي تحيا به الأجيال، بعد أن وضح معان غابت عن الأذهان طويلاً، وضح معاني ومصطلحات الطاغوت، الجاهلية، الحاكمية، العبودية، الألوهية، ووضح بوقفته المشرفة معاني البراء والولاء، والتوحيد والتوكل على الله والخشية منه والالتجاء إليه.

والذين دخلوا أفغانستان يدركون الأثر العميق لأفكار سيد قطب في الجهاد الإسلامي وفي الجيل كله فوق الأرض كلها، إن بعضهم لا يطلب منك لباساً وإن كان عارياً ولا طعاماً وإن كان جائعا ولا سلاحاً وإن كان أعزلاً ولكنه يطلب منك كتب سيد قطب. وكم هزني أن أسمع أن هنالك قواعد جهادية في أفغانستان وعمليات حربية يطلق عليها اسم سيد قطب.

والذين يتابعون تغير المجتمعات وطبيعة التفكير لدى الجيل المسلم يدركون أكثر من غيرهم البصمات الواضحة التي تركتها كتابة سيد قطب وقلمه المبارك في تفكيرهم”.

ويقر عزام أنه ما تأثر بكاتب كتب في الفكر الإسلامي أكثر مما تأثر بسيد قطب، “وإني لأشعر بفضل الله العظيم علي إذ شرح صدري وفتح قلبي لدراسة كتب سيد قطب، فقد وجهني سيد قطب فكرياً وابن تيمية عقدياً وابن القيم روحياً والنووي فقهياً، فهؤلاء أكثر أربعة أثروا في حياتي أثراً عميقاً” .

ولما صدر حكم الإعدام بسيد قطب ود لو يفتديه بنفسه وأمه وأبيه، وكتب برقية لعبد الناصر يقول فيها: (الدعوة لن تموت والشهداء خالدون والتاريخ لا يرحم).(عملاق الفكر الإسلامي بقلم عبد الله عزام).

ومع ذلك لقد كان للحركة الإسلامية خصوصاً مؤسسها الشهيد حسن البنا (رحمه الله) أشد الأثر في تكوين شخصية عزام الحركية، وكان معجباً برسائل البنا، وكان يقول: (هذا المنهج الذي وضعه البنا إنما هو فتوح من الله تعالى، فقد وضع أسس الحركة الإسلامية ولم يسبقه في ذلك أحد)، وكان يوزع هذه الرسائل الصغيرة على مجموعات أسر الإخوان التي نظمها في القرية ويطالبهم بحفظها وفهمها جيداً. (الشهيد عبد الله عزام بين الميلاد والاستشهاد بقلم أبو مجاهد)لكن عبد الله عزام اختلف أيضاً مع الحركات الجهادية المصرية بشكل خاص حول قتال العدو البعيد مع وجود العدو القريب. والعدو القريب بالنسبة لهذه الحركات يتمثل بالأنظمة السياسية التي كفروها لعدم تطبيق الشريعة. ويعتبر كتاب “الفريضة الغائبة” لمحمد عبد السلام فرج مهندس عملية اغتيال الرئيس أنور السادات حين توحد تنظيما الجهاد والجماعة الإسلامية في ذلك الوقت، من بواكير النصوص التي روّجت للسلفية الجهادية، وفرج أُدين مع المجموعة التي نفذت الاغتيال وأُعدم معهم.

وإذا كانت “الفريضة الغائبة” من أولى نصوص السلفية الجهادية في مصر، وربما هي من أكثرها أهمية لأن الكتاب أضحى دستوراً لهذا التيار فيما بعد، لكن فرج الذي كان يناقش فرضية الجهاد في هذا العصر كما ناقش المسألة لاحقاً عبد الله عزام، زاد أن الحكم القائم في مصر هو حكم غير إسلامي وهو العدو القريب الأولى بالجهاد من العدو البعيد، والذي قد يكون الروس في أفغانستان أو حتى اليهود في فلسطين!

نظرية عبد السلام فرج

ويقول فرج: “من يريد حقاً أن ينشغل بأعلى درجات الطاعة وأن يكون في قمة العبادة فعليه بالجهاد في سبيل الله وذلك مع عدم إهمال بقية أركان الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصف الجهاد بأنه ذروة سنام الإسلام ويقول صلى الله عليه وسلم ( من لم يغز أو تحدثه نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية أو على شعبة من النفاق)..

ويقول البعض إن الانشغال بالسياسة يقسي القلب ويلهي عن ذكر الله .. وأمثال هؤلاء كأنما يتجاهلون قول النبي صلى الله عليه وسلم : (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، والحق يقول من يتكلم بهذه الفلسفات إما أنه لا يفهم الإسلام أو هو جبان لا يريد أن يقف بصلابة مع حكم الله .

..وهناك من يقول إن على المسلمين الاجتهاد من أجل الحصول على المناصب، وبذلك يسقط النظام الكافر وحده وبدون مجهود ويتكون الحاكم المسلم .. والذي يسمع هذا الكلام لأول وهلة يظنه خيالاً أو مزاحاً، ولكن الحقيقة أن بالحقل الإسلامي من يفلسف الأمور بهذه الطريقة وهذا الكلام بالرغم من أنه لا دليل له من الكتاب والسنة فإن الواقع حائل بدون تحقيقه .. فمهما وصل الأمر إلى تكوين أطباء مسلمين ومهندسين مسلمين، فهم أيضاً من بناء الدولة ولن يصل الأمر إلى توصيل أي شخصية إلى منصب وزاري إلا إذا كان موالياً للنظام موالاة كاملة”، وهذا اقتباس ظاهر من معادلة سيد قطب حول ضرورة الابتعاد عن مجتمع الجاهلية.

ويضيف فرج: “منهم من يقول إن الطريق لإقامة الدولة هو الدعوة فقط وإقامة قاعدة عريضة، وهذا لا يحقق قيام الدولة بالرغم من أن البعض جعل هذه النقطة أساس تراجعه عن الجهاد، والحق أن الذي سيقيم الدولة هم القلة المؤمنة ..والذين يستقيمون على أمر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. دائماً قلة بدليل قول الله عز وجل (وقليل من عبادي الشكور) وقوله سبحانه (وإن تتبع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) وتلك سنة الله في أرضه، فمن أين ستأتي بهذه الكثرة؟ ويقول سبحانه (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين).

..ثم كيف تنجح الدعوة هذا النجاح العريض وكل الوسائل الإعلامية الآن تحت سيطرة الكفرة والفسقة والمحاربين لدين الله .. فالسعي المفيد حقاً هو من أجل تحرير هذه الأجهزة الإعلامية من أيدي هؤلاء .. ومعلوم أنه بمجرد النصر والتمكين تكون هناك استجابة، فيقول سبحانه وتعالى ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً).

ويجدر بنا في استعراض هذه النقطة الرد على من يقول إنه لابد أن يكون الناس مسلمين حتى تطبق الإسلام عليهم كي يستجيبوا لهم وكي لا تفشل في تطبيقه، والذي يتشدق بهذا الكلام فهو إنما يتهم الإسلام بالنقص والعجز دون أن يشعر، فهذا الدين الصالح للتطبيق في كل زمان ومكان وقادر على تسيير المسلم والكافر والفاسق والصالح والعالم والجاهل ..وإذا كان الناس يعيشون تحت أحكام الكفر فكيف بهم إذا وجدوا أنفسهم تحت حكم الإسلام الذي هو كله عدل”.

الهجرة والإعداد

ويرد فرج على من ينتقده معتبراً إياه أنه يجعل الدعوة وراء الجهاد مرتبة فيقول: “قد أخطأ الفهم من يفهم كلامي هذا بمعنى التوقف عن الدعوة (دعوة الناس إلى الإسلام)، فالأساس هو أن تأخذ الإسلام ككل ولكن ذلك رداً على من جعل قضيته هي تكوين القاعدة العريضة والشغل عن الجهاد ومن أجلها أوقفه وعطله.

وفي تعريض بمن يرى ضرورة الهجرة إلى مكان آمن قبل العودة إلى مصر مثلاً وتغيير النظام على طريقة الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة أيام الرسول، قال فرج: “هناك من يقول إن الطريق لإقامة الدولة الإسلامية هو الهجرة إلى بلد أخرى وإقامة الدولة هناك ثم العودة مرة أخرى فاتحين، ولتوفير جهد هؤلاء فعليهم أن يقيموا دولة الإسلام ببلدهم ثم يخرجون منها فاتحين” وذلك مع العلم أن حركة عزام والذين تابعوه على طريق الجهاد الأفغاني فيما بعد ساروا على درب الهجرة أولاً على أمل العودة فاتحين ..

ويتساءل فرج: “هل هذه الهجرة شرعية أم لا؟ للإجابة على هذا التساؤل ندرس أنواع الهجرة وقد وقعت في الإسلام على وجهين :

الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة ، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة .

الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، ولا عجب في ذلك فإن هناك من يقول إنه سوف يهاجر إلى الجبل ثم يعود فيلتقي بفرعون كما فعل موسى وبعد ذلك يخسف الله بفرعون وجنوده الأرض, وكل هذه الشطحات ما نتجت إلا من جراء ترك الأسلوب الصحيح والشرعي الوحيد لإقامة الدولة الإسلامية ..إذن فما هو الأسلوب الصحيح ؟ يقول الله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شياً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم) ويقول سبحانه: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) .ويرد فرج على من يقول إن الطريق الآن هو الانشغال بطلب العلم، وكيف نجاهد ولسنا على علم وطلب العلم فريضة، فيقول: “لم نسمع بقول واحد يبيح ترك أمر شرعي أو فرض من فرائض الإسلام بحجة العلم خاصة إذا كان هذا الفرض هو الجهاد فكيف نترك فرض عين من أجل فرض كفاية؟ .. ثم كيف يتأتى أن نكون قد علمنا أقل السنن والمستحبات وننادي بها ثم نترك فرضاً عظمه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ثم الذي تعمق في العلم إلى درجة أنه عرف الصغيرة والكبيرة كيف يمر عليه قدر الجهاد وعقوبة تأخيره أو التقصير فيه؟. ومن يقول أن أتعلم الجهاد ،عليه أن يعلم أن الفرض هو القتال لأن الله سبحانه وتعالى يقول ( كتب عليكم القتال) .. أما تأخير الجهاد بحجة طلب العلم فتلك حجة من لا حجة له.

ويوضح الله تعالى أن هذه الأمة تختلف عن الأمم الأخرى في أمر القتال، ففي الأمم السابقة كان الله سبحانه وتعالى ينزل عذابه على الكفار وأعداء دينه بالسنن الكونية (الخسف والغرق والصيحة والريح) وهذا الوضع يختلف مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه وتعالى يخاطبهم قائلا لهم: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) أي أنه على المسلم أولاً أن ينفذ الأمر بالقتال بيده ثم بعد ذلك يتدخل الله سبحانه وتعالى بالسنن الكونية وبذلك يتحقق النصر على أيدي المؤمنين من عند الله سبحانه وتعالى”.

 

قتال الحكام أولاً

ويتطرق فرج بعد ذلك إلى مسألة بالغة الحساسية وهي قضية فلسطين فيرفض القول إن ميدان الجهاد اليوم هو تحرير القدس كأرض مقدسة، “والحقيقة أن تحرير الأراضي المقدسة أمر شرعي واجب على كل مسلم ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف المؤمن بأنه كيس فطن، أي أنه يعرف ما ينفع وما يغير، ويقدم الحلول الحازمة الجذرية ، وهذه نقطة تستلزم توضيح الآتي:

أولاً: إن قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد .

ثانياً: إن دماء للمسلمين ستنزف حتى وإن تحقق النصر .. فالسؤال الآن هل هذا النصر لصالح الدولة الإسلامية القائمة؟ أم أن هذا النصر هو لصالح الحكم الكافر وهو تثبيت لأركان الدولة الخارجة عن شرع الله .. وهؤلاء الحكام إنما ينتهزون فرصة أفكار هؤلاء المسلمين الوطنية في تحقيق أغراضهم غير الإسلامية وإن كان ظاهرها الإسلام، فالقتال يجب أن يكون تحت راية مسلمة وقيادة مسلمة ولا خلاف في ذلك .

ثالثاً : إن أساس وجود الاستعمار في بلاد الإسلام هم هؤلاء الحكام ، فالبدء بالقضاء على الاستعمار هو عمل غير مجد وغير مفيد وما هو إلا مضيعة للوقت، فعلينا أن نركز على قضيتنا الإسلامية وهي إقامة شرع الله أولاً في بلادنا وجعل كلمة الله هي العليا .. فلا شك أن ميدان الجهاد هو اقتلاع تلك القيادات الكافرة واستبدالها بالنظام الإسلامي الكامل ومن هنا تكون الانطلاقة”.. (الفريضة الغائبة)أما سيد إمام عبد العزيز المعروف بعبد القادر بن عبد العزيز، والذي كان في عداد أول مجموعة جهادية شكلها أيمن الظواهري في مصر في سبعينات القرن العشرين، والذي تولى قيادة تنظيم الجهاد عندما أعاد الظواهري تأسيسه في بيشاور بباكستان عام 1987، فقد ألف كتاباً مهماً هو في واقع الأمر دستور التنظيم تحت عنوان “العمدة في أحكام العدة” وفيه يؤصل للأفكار التي طرحها محمد عبد السلام فرج أول مرة في “الفريضة الغائبة” مع التشديد على إيراد الأدلة الشرعية وأقوال علماء السنة وتفصيل بعض المسائل. ويقول عبد العزيز: “ويجب البدء بقتال العدو الأقرب لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ}. قال ابن قدامة: [مسألة “ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو”: والأصل في هذا قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ}، ولأن الأقرب أكثر ضرراً، وفي قتاله دفع ضرره عن المقابِل له وعمن وراءه، والاشتغال بالبعيد عنه يُمَكِّنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه”.

ويضيف: “قتال المرتدين الممتنعين مقدم على قتال الكفار الأصليين لأن المرتد أعظم جناية في الدين وأشد خطراً.

وهذا كشأن الحكام الذين يحكمون بغير شريعة الإسلام في كثير من بلدان المسلمين، فهؤلاء كفار، لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} ، ولقوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }، وغيرها من الأدلة، ومعظم هؤلاء يدعون الإسلام فهم بالكفر صاروا مرتدين.

والحق أن هؤلاء الحكام مع حكمهم بغير ما أنزل الله يُشَرِّعون للناس ما يشاءون من أحكام فهم قد نَصَبُوا أنفسهم أربابا وآلهة للناس من دون الله تعالى، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}، وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}. فكفرهم كفر مزيد مركب مع صدهم عن سبيل الله.

ويضع عبد العزيز المعادلة صريحة: “كل من شارك في وضع القوانين الوضعية أو حَكَم بها، فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من ملة الإسلام، وإن أتى بأركان الإسلام الخمسة وغيرها. وهذا هو ما قرره كثير من أهل العلم المعاصرين كما نقلتُه في الباب الثالث من هذه الرسالة عن أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ.

فهذا الحاكم المرتد إن لم تكن له منعة وجب خلعه على الفور ويُعْرض على القاضي فإن تاب وإلا قتل وإن تاب لم يرجع إلى ولايته. وإن كان الحاكم المرتد ممتنعا بطائفة تقاتل دونه، وجب قتالهم، وكل من قاتل دونه فهو كافر مثله. فكل من نصر الكافر بالقول أو بالفعل لنُصْرَة كُفْرِه فهو كافر مثله، وهذا هو حكم الظاهر في الدنيا كممتنع عن أهل الإيمان والجهاد، وقد يكون مسلماً في الباطن لوجود مانع من التكفير في حقه أو شبهة ونحوه، إلا أن هذا لا يمنع من الحكم بكفره لقيام المقتضى في حقه، وهكذا جرت السنة في الحكم على الممتنعين.

وجهاد هؤلاء الحكام المرتدين وأعوانهم فرض عين على كل مسلم من غير ذوي الأعذار الشرعية، وقد سبق أن الجهاد يتعين في ثلاثة مواضع منها إذا حل العدو الكافر ببلد المسلمين، وهذا هو حال هؤلاء المرتدين المتسلطين على المسلمين، فهم عدو كافر حل ببلد المسلمين، فقتالهم فرض عين.

وكون جهاد هؤلاء الطواغيت فرض عين، هو من العلم الواجب إشاعته في عموم المسلمين، ليعلم كل مسلم أنه مأمور شخصيا من ربه سبحانه بقتال هؤلاء. فإن هؤلاء الطواغيت يضربون سياجا من العزلة المميتة بين عامة المسلمين وبين المتمسكين بدينهم، ليتسنى لهم ضرب المتمسكين بدينهم وسط جهل العامة وصمتهم، في حين أن كل فرد من العامة مخاطب بنفس الفريضة ما دام مسلماً وإن كان فاسقاً مرتكباً للموبقات، فإن الفسق لا يسقط الواجب.

فالواجب على المتمسكين بدينهم كسر حاجز العزلة هذا بإعلام العامة عن طريق الدعوة الفردية والدعوة العامة بفرضية هذا الجهاد، لتتحول قضية الجهاد إلى قضية جميع المسلمين لا قضية جماعات الصفوة التي تضرب في يوم وليلة، وليتحول الجهاد من قضية للخاصة إلى قضية للعامة. وهنا تنقلب الدائرة على الطواغيت وأعوانهم فيتم عزلهم بعد كشف كفرهم وإجرامهم الخطاب الشرعي بالجهاد.

ويجب على المتمسكين عزل الطواغيت عن العامة بنشر العلم الشرعي بوجوب جهادهم. وكما أخرج الطواغيت هؤلاء المتمسكين بدينهم من أموالهم وحاصروهم وضَيَّقوا عليهم معايشهم، فكذلك يجب على المتمسكين بدينهم إخراج الطواغيت من الأموال التي يُجَنِّدون بها الجيوش لمحاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ويحرم على كل مسلم دفع الأموال لهؤلاء الطواغيت في أي صورة من جمارك وضرائب ونحوها إلا مضطراً أو مكرهاً، قال تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، وقال تعالى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} ، وليكن معلوماً أنه لا شرعية لهذه الحكومات الطاغوتية ولا لقوانينها.

 

تكوين الشوكة

ويشدد صاحب العمدة على أن حصر هذه القضية في الخاصة “لن يأتي بثمرة التغيير المأمول لأن فيه مصادمة للقاعدة التي لا تتبدل {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، وليس معنى هذا أنه يجب أن يشارك مجموع الشعب في بلد ما في هذه القضية، فهذا مستبعد، ولكن المطلوب هو أن تشارك نسبة معينة من الشعب تتكون بها الشوكة القادرة على فرض النظام الإسلامي ثم حمايته من أعدائه في الداخل والخارج، أما بقية الشَّعب فيكفي أن تكون متعاطفة أو على الأقل محايدة حتى يتبين لهم الحق، كذلك يجب توعية العامة بأنة من لم يستطع منهم أن يكون له دور إيجابي في مواجهة الطواغيت، فلا أقل من أن يكون له دور سلبي يتمثل في عدم معاونة الطواغيت وبتصعيد المواجهة مع الطواغيت يتصاعد بطشهم وإيذاؤهم للمؤمنين. وبذلك تدخل قضية الجهاد كل يوم بيتاً جديداً من بيوت المسلمين وتكسب الدعوة أنصاراً جدداً، حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد”. وهنا أيضاً تبن واضح لفكرة الطليعة أو الصفوة أو القلة التي تغلب الكثرة، وهو ما يتفق عموماً مع فكرة عبد الله عزام فيما أسماه القاعدة الصلبة، لكن نقطة الخلاف الرئيسية بينه وبين السلفية الجهادية المصرية تبقى حول قتال الحكام المرتدين حيث يؤكد عبد العزيز أن “قتال هؤلاء مقدم على قتال غيرهم من الكفار الأصليين من يهود ونصارى ووثنيين، وهذا من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه جهاد دفع متعين وهو يقدم على جهاد الطلب، أما كونه جهاد دفع فهذا لأن هؤلاء الحكام عدو كافر تسلط على بلد المسلم، وكونهم مرتدين وكونهم الأقرب إلى المسلمين والأشد خطراً وفتنة.(العمدة في أحكام العدة)

 

انقلاب الظواهري

عبد القادر بن عبد العزيز الذي اعتُبر في مرحلة معينة من أقرب المقربين إلى الظواهري، تخلى عن التنظيم ولجأ إلى اليمن حيث قُبض عليه بعد أحداث 11 أيلول وسُلم إلى السلطات المصرية في 28/2/2004 م. ويؤكد المحامي منتصر الزيات رفيق درب الظواهري ومحامي الجماعات الإسلامية ثم المروِّج الرئيسي لمبادرة الهدنة التي أطلقتها الجماعة الإسلامية عام 1999، أن خلافاً فقهياً فرّق بين سيد إمام والظواهري، وأن كتاب “الجامع في طلب العلم الشريف” للأول هو الذي كان السبب.

 

إتهامات عبد القادر

ويقول سيد إمام في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه المذكور: “قامت إحدى الجماعات الإسلامية وهي جماعة الجهاد المصرية بطبع كتابي هذا بعد تغيير اسمه وبعد الحذف منه والإضافة إليه، فاقتضى هذا إصدار بيان للتنبيه على مافعلته هذه الجماعة”.

وهذا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شرٌ منه حتى تلقوا ربكم) رواه البخاري، وقوله صلى (تأتي الفتن يُرَققّ بعضها بعضاً) الحديث رواه مسلم، فإن الذي فعلته هذه الجماعة الأثيمة من تحريف كتب العلوم الشرعية لا سابقة له في تاريخ المسلمين فيما علمته، فهذا من الشرور الحادثة، وقانا الله من مضلات الفتن.

وقد علمت بأن الباعث لهذه الجماعة الأثيمة على ما أقدمت عليه من التحريف والتزوير لكتابي قولهم بأنه اشتمل على نقد لبعض الجماعات الإسلامية وأن هذا يضر بالعمل الإسلامي وأن المصلحة تقتضي حذف هذا النقد وهو مااقترفته أيديهم، وأعلّق على هذا بأمرين:

أحدهما: إن المصلحة الشرعية الحقة هى في تمييز الحق من الباطل، أما السكوت عن الباطل فليست فيه مصلحة وإنما هو تلبيس على المسلمين واتباع للهوى، وهذا بخلاف مراد الله في قوله تعالى: (ماكان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) آل عمران، وقوله تعالى: (ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون) الأنفال. فتمييز الخبيث من الطيب أمر محبوب لله تعالى أراده شرعاً وقدراً، وعلى هذا فالقول بأن كتمان النقد الذي ورد بكتابي فيه مصلحة هو قول فاسد مضاد لأمر الله.

والأمر الثاني: أن أغلب المعاصي العظيمة ما ارتكبت إلا بتأويل فاسد، فإبليس عصى بامتناعه عن السجود لآدم بتأويل فاسد وهو قوله ــ فيما حكى الله تعالى (أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين)، والكفار استحلوا الربا بتأويل فاسد وهو قولهم ــ فيما حكى الله تعالى ــ (إنما البيع مثل الربا) واليهود والنصارى استـــمروا في كفرهم وضلالهـــم بتأويل فاســد وهو قولهم ــ فيما حـــكى الله تعالى ــ (نحن أبناء الله وأحباؤه)، ولهذا وصفهم الله تعالى بقوله (وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون)، أما هذه الجماعة الأثيمة فاقترفت مااقترفته من التحريف والتزوير بتأويل فاسد وهو المصلحة المزعومة، وكل التأويلات الفاسدة ماهى إلا تقية يدرأ بها العاصي عن نفسه”.

ولم يكتف سيد إمام بذلك بل حذر من “الكذب والتزوير والخداع الذي تقوم به جماعة الجهاد المصرية”، وأن الله مَنَّ عليه بتأليف “كتاب اشتمل على ما يلزم طالب العلم الشرعي منذ أن يشرع في طلبه إلى أن يصير مفتياً إن وفّقه الله لذلك، وذلك على التفصيل.. واشتمل أيضا على نقد شرعي لأخطاء بعض المؤلفين من القدامى والمعاصرين، ودخل في هذا النقد المؤلفات الشرعية لبعض الجماعات الإسلامية ونقد الأساليب العملية غير الشرعية للبعض الآخر، وقد كان مقصدي من هذا أن يعلم المسلمون بعض مواضع الخلل في العمل الإسلامي المعاصر، وأن يعلموا بعض أسباب الخذلان الملازِم للحركات الإسلامية في الأغلب الأعم ..وأن الشك في صحة مناهج الحركات الإسلامية العلمية أو العملية خير من الشك في صدق وعد الله تعالى”. وأكد في السياق أنه لا ينتمي لأي جماعة إسلامية حتى لا أتهم بمحاباة أحد، وأنما كتب من وجهة علمية محايدة وانتقد نقداً شرعياً “غرضه تصحيح الأخطاء وكشف الانحرافات قياما بواجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولعموم المسلمين”.

والأخطر أن القائد السابق لجماعة الجهاد وصفها بـ”الجماعة الضالة” وأنها وضعت عنواناً لكتابه غير الذي وضعه فأسمته (الهادي إلى سبيل الرشاد في معالم الجهاد والاعتقاد) مع أنه ووضعت تحت العنوان المفَتَري اسمه، “وهذا كذب علي، وبهذا ثبت أن القائمين على أمر هذه الجماعة كذابون، والكذب كبيرة، ومرتكب الكبيرة فاسق عند أهل السنة، ولو كان لديهم شيء من الورع مافعلوا ذلك”.

من ناحية أخرى، “حذفت هذه الجماعة الضالة المقدمة التي وضعتها للكتاب وقد ذكرت مجمل ماورد بها آنفاً، ووضعوا مقدمة أخرى للكتاب ونسبوها إليّ، وهذا كذب وافتراء وفسق، وقد قال تعالى (إنما يفتري الكذب الذين لايؤمنون).

ورغم من أنه قد ذكر في مقدمة كتابه أنه لا يحل لأحد أن يختصره، “فقد قامت هذه الجماعة الضالة باختصاره بل بتمزيقه مَزّق الله أوصالهم، فقد اختصروا الكتاب في نصف حجمه الأصلي البالغ نحو ألف صفحة من القطع الكبير، وإنما حملهم على هذا ما ورد بالكتاب من نقد شرعي لبعض الجماعات الإسلامية، وهذا الذي صنعوه لم تفعله أشد الحكومات إجراماً وطغيانا مع كتابات مخالفيها، غاية ما تفعله تلك الحكومات أن تمنع نشر كتب مخالفيها، أما أن تحرّفها وتعبث بها بالإضافة والحذف فلا أعلم حكومة طاغية فعلت ذلك، فإذا كانت هذه الجماعة الضالة تعبث بكتب العلوم الشرعية هذا العبث مع استضعافها فكيف تصنع إذا تمكّنت؟ بل كيف يرجو هؤلاء الكاذبون الضالون تمكينا من الله؟”

وخلص سيد إمام إلى القول: “إن ما صنعته هذه الجماعة هي أفعال عصابة من المفسدين المستخفين بالدين، لا أفعال جماعة من المسلمين، ولايحل لمسلم أن ينتمي لأمثال هؤلاء أو أن يعينهم”. وهذا كله ما بين عامي 1994 و1995 أي قبل أن تنشأ الجبهة الإسلامية العالمية لمقاتلة اليهود والصليبيين بالمشاركة مع أسامة بن لادن وقبل أن يتحول الظواهري من العدو القريب (الأنظمة العربية) إلى العدو البعيد (الولايات المتحدة).

 

بدايات تنظيم الجهاد

وحسب المحامي هاني السباعي المطلوب في مصر بالقضية المعروفة باسم “العائدون من ألبانيا” عام 1999 فقد ظهرت جماعات جهادية عدة في مصر بدءاً من حقبة الستينات، لكن (جماعة الجهاد) تحديداً ظهرت على يد الدكتور ايمن الظوهري. وكانوا لا يزالون فتياناً في الثانوية العامة في مدرسة المعادي? وقال الظواهري للسباعي إنه تأثر أول ما تأثر بكتابات سيد قطب وحادثة الحكم بإعدامه عام 1966، وتأثر كذلك بمشروع هذا الرجل من خلال القراءات والكتابات البليغة والوضوح في تشريح الواقع، حيث وصف الظواهري سيد قطب “بأنه مثل الطبيب الشرعي الذي يشرّح الجثة بمهنية وتقنية عالية وكأنه يعرفها بأدق تفاصيلها”.

وكانت هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 عزّزت اقتناع اعضاء المجموعة الأولى بزعامة الظواهري كما يؤكد السباعي بضرورة العمل من أجل التغيير. “وكانت المجموعة منشغلة آنذاك في فترة السبعينات في التدريس وتجنيد الأفراد وتوسيع العضوية. وهم كانوا في تلك الفترة يركّزون على الجيش ويبحثون عن الضباط لأنهم يعرفون ان الجيش هو أسهل ورقة للتغيير بدون اهدار دماء.. واستمرت الجماعات التي تحمل أفكاراً جهادية تعمل في شكل منفرد حتى أواخر السبعينات تقريباً. وفي 1979 حصل تحالف بينها فتوحدت, وهي التي كانت مسؤولة عن قتل السادات.

..والجماعة الإسلامية في تلك الفترة لم تكن بالمعنى الإصطلاحي الحالي المعروف بعد قتل السادات. كانت عندهم فكرة تغيير المنكر بالقوة, وكانت لهم مشاكل كثيرة مع النصارى هناك. لكن لم يكن اسمهم (الجماعة الإسلامية) بالمعنى الرائج الآن. يقول بعضهم الآن في كتاباته, إن الجماعة الإسلامية تأسست بهذا الاسم. لكن هذا الاسم ختراع قديم لـ(الإخوان المسلمين) اعتمدوه ليدخلوا الجامعات ومن ضمنها جامعة أسيوط والمنيا. لكن الإخوة في (الجماعة الإسلامية) أرادوا ان يرثوا الإسم لأنه كان اسماً معروفاً ومشهوراً. كانت الجماعة الإسلامية عبارة عن مجموعة من الأشخاص يقومون بنشاطات في الجامعات مثلاً أو يدعون النساء الى ارتداء الحجاب ومنع الاختلاط ويقومون بمشاكل مع النصارى في مناطقهم. لم تكن مسألة قيام الدولة قائمة في تصورهم. أقصى ما كان 

 

 

قتال المرتدين الممتنعين

 

العدو القريب

 

القاعدة الصلبة

 

مرجعية سيد قطب

أضف تعليق